الراى > الأفلام لا تعرف النوبي
العدد 1798 - الخميس الموافق - 12 مايو 2011
كتب - رامى يحيى
الحكاية من الوضوح، بحيث يمكن لمن يرغب في التعرف عليها، أن يكتفي برؤية فيلم مصري واحد فقط، وبالإضافة لوضوحها فلن تجد صعوبة في إقناع أحد بها كما هو الحال مثلا في موضوع، فرعونية الاحتفال بذكري الأربعين.. أو عدم ذكر الكتاب والسنة أي شيء عمَّا يسمي بحد الردة.
الحكاية بلا مقدمات أن الراحل محمد كامل هو أول الوجوه البارزة في تقديم شخصية النوبي في هوليوود الشرق، في أعمال مثل «سلامة في خير» 1937، و«تحيا الستات» 1944، وحتي «مكالمة بعد منتصف الليل» 1980.
ولم يخرج النجم النوبي عن النمط المحدد سلفا، البواب «مكالمة بعد منتصف الليل»، السفرجي «ليلي بنت الأغنياء» الخادم «قلبي دليلي»، حتي إنه حين ظهر بدور سائق كان هذا دليلا علي «عبقرية» المخرج حيث استطاع أن يخرج النوبي من المطبخ إلي الشارع.
من عصر فاروق الأول إلي عهد مبارك الأخير استوطنت شخصية النوبي كخادم في أذهان صناع السينما، وحين رحل محمد كامل وجدوا ضالتهم في صلاح يحيي 1940 إلي 1994 وظهر بعده محمد الأدنداني 1941 ليقدما الشخصية نفسها.
لا دخان بلا نار.. حين قرر عسكر يوليو تكملة مشروع المحتل وتطويره في الجنوب بإنشاء السد العالي لتوليد الكهرباء للمدن وتخزين مياه الفيضان وقتها أصبح لزاما علي النوبي المستمتع بعزلته أن يحمل ثقافته ويتحرك أسرع من الماء إلي قري زرعت في واد غير ذي زرع أو أن يهاجر إلي مدن لا يعرف حتي لغتها، وهناك لم يكن أمامه إلا العمل في أسفل السلم الاجتماعي.. كامتداد لجيلين من المهاجرين علي يد خزان أسوان 1906 وتعليتيه الأولي 1912 والثانية 1926.
كانت بضاعة النوبي هي الأمانة والنظافة علاوة علي لون البشرة واللسان المتعثر في العربي، وقد جعلت البيوتات الراقية تتهافت علي استجلاب النوبيين للخدمة خصوصا بعد أن صاروا استايل ذاك العصر.
لكن بعد انتصار الجنيه علي الكارنيه في معركة الانفتاح الاقتصادي تبدلت الذائقة وقواعد اللعبة، فظهرت موضة الخادمات الفلبينيات.. وهيمنة الصعايدة علي البوابات حين صارت الفهلوة هي المطلوبة وليس الأمانة.. ثم انتشرت شركات الأمن.
صارت المدينة أمرا واقعا في حياة النوبي فلحقت به الأسرة أو كون واحدة بها، انخرط النوبيون في حياة المدينة خاصة مع ضياع التعويضات الحكومية البخسة وفشل البعض في الحصول عليها، انتشر النوبيون داخل المجتمع ولم يكونوا يوما ما شعب طبقة، لكن يبدو أن هذا قد حدث في الخفاء.. ولم تلحظه عقول هوليوود الشرق، فلم تحتو مكتباتهم علي شمندورة «محمد خليل قاسم» أو ترجمات «خليل كلفت»، فمن تسلط الأضواء نحوه لا يري مغمورين مثل حمزة علاء الدين، أحمد منيب، علي كوبان، زكي مراد، كما لم يقابل أحدهم يوما شحادا نوبيا أو طبيبا أو لصا أو محاميا أو جنديا أو مثليا جنسيا أو صحفيا أو مدير بنك أو رياضيا أو عضو مجلس شعب أو مجنونا أو حمالا أو بائعا أو.. أو.. لهذا ظل صلاح يحيي ومحمد الأدنداني يقدمان ذات الشخصية كأي عمل روتيني.
الغريب انه حين قرر صناع السينما تقديم أعمال تتناول حياة هذه الشرائح المهمشة.. انتبهوا فجأة - ومؤقتا - لاحتلال آخرين صدارة المشهد في هذه الأعمال فكان «البيه البواب» صعيديا -رغم سواد بشرته - وكذلك الذي صار «صاحب الإدارة».. وقدم شخصية «الخادم» الجان فاروق الفيشاوي.
نجحت السينما المصرية عبر مئات الأعمال في تشكيل قالب حديدي للنوبي.. فمثلما صار الفنان التشكيلي لا يستحم.. والمثقف كائن فاقد الزمن يعيش خلف نظارته.. ولم يعد ينتظر من الطبيب النفسي سوي أن يصفق بأذنيه.. ومن النوبي أن يفتح البوابة أو يقدم مشروبا ما من داخل جلبابه الأبيض أو علي الأقل يتخلي عن كرسيه في المواصلات لأحد أسيادة.
قد يكون هذا بسبب حب التنميط أو لعدم وجود أي أثر للنوبة في كل مناهج التعليم.. قد يكون بسبب أزمة الهوية التي تعيشها مصر منذ نهاية الدولة الفرعونية وتألق هذه الأزمة مع الغزو العربي؟