رواية ” اللعب فوق جبال النوبة ” رواية تستحق القراءة ، لما لا ونحن أمام كاتبها المتميز إدريس على صاحب رواية المبعدون ورواية انفجار جمجمة وغيرها ، هذا الكاتب الذى بدأ الكتابة متأخراً ولكنه علم نفسه بنفسه ليذكرنا بأدباء سبقوه على نفس الدرب ومنهم الراحل أمين يوسف غراب الذى أبدع لنا روايات شباب امرأة والساعة تدق العاشرة ومجموعة فصص أشياء لا تشترى وغير ذلك من الأعمال الجميلة ..
تتميز رواية ” اللعب فوق جبال النوبة” التى تجرى أحداثها على أرض قرية نوبية بعيدة فى جنوب الوادى بسرعة الإيقاع والتشويق الذى يبعثه المؤلف فى نفس المتلقى وذهنه فيأسره ليلقى به بعيداً هناك ، كما سبق وألقى ببطلة الرواية ” غادة ” فى قرية ” مالتى” البعيدة هناك فى النوبة ..
فى الحقيقة عندما يتردد اسم النوبة تتداعى فى رأسى ذكريات عديدة لهؤلاء العسكر الذين كانوا يسمون بالهجانة ، ومنهم العسكرى أحمد الذى سكن عند جيران لنا وكان يغنى لنا أغنية مسلسل الشمندورة عن رواية محمد خليل قاسم ، وهؤلاء العسكر الهجانة الذين يركبون الجمال ورأيتهم فى فيلم الأرض ليوسف شاهين ، وغير ذلك هذا الكتاب الذى لا أذكر اسمه لكننى نقلت بعضاً من كلماته فى كراستى ومقابلها الكلمات التى نعرفها ومنها :
القرأن Noren Banjad
الشيطان Oseen Mamee=
القلم = Fainad
المدرسة = Kolad
الأستاذ = Kolekatje
الكاتب = Faiate
أما رواية ” اللعب فوق جبال النوبة” فهى رواية عندما يبدأ المرء فى قراءتها فهى لا تتركه وشأنه بل تظل تتسرب حتى فى تلافيف دماغه لكى ينتهى من قراءتها ، خلق فيها إدريس على عالماً ثرياً ممتلئ بالمجهول وبالأساطير والخرافات فى لوحة تتلاحق فيها الأحداث سراعاً فلا يشعر القارئ بملل ، بيئة النوبة الجميلة الهادئة الساكنة بإيقاعها البسيط وأعرافها وتقاليدها المتشعبة والمتغلغلة فى أعماق التاريخ تحفها الأساطير من كل جانب ..
عبر أحداث متشابكة بين امتزاج واختلاف وبين تنوع وثراء وقدرة المؤلف على الإمساك باللحظة والإنتقال سريعاً من واقع لواقع نقرأ الرواية ..
سبحت الاحداث فى أجواء متضادة ولكنها واضحة للقارئ بين القاهرة العاصمة الجبارة التى ولدت بها بطلة الرواية لأب نوبى أسمر اللون وأم قاهرية جميلة شاهقة البياض ورثت الفتاة ـ محور الرواية ـ كل جينات أمها الوراثية وحين كبرت تم إبعادها عن القاهرة إلى مسقط رأس أسرتها هناك فى النوبة لأنها ارتكبت جرماً اسمه ” الحب” مع بقاء الأب فى العاصمة لممارسة عمله والعيش مع زوجته النوبية الجديدة بعد موت أمها والتى قامت بإستعباد الفتاة البيضاء والتى قالت لعائشة أخت بطل القصة أنها لم تسمع أبداً أن هناك بيضاء كانت تحت إمرة امرأة سوداء ، فقد تم ارسال البنت التى كانت فى أوائل سنوات الشباب للقرية النوبية البعيدة كنوع من العقاب ، وللتخلص مما تصوره الأب نوعاً من التجاوز الذى لا يراعى التقاليد الموروثة حيث لا يمكن زواج الفتاة النوبية إلا من شاب نوبى مثلها كما تجرى العادة وتقتضى التقاليد ..
جاءت ” غادة ” إلى القرية الوادعة فقلبت رؤوس أهلها رأساً على عقب ، الصبى الذى استقبلها فى ميناء الوصول مع جدتها ” شاية ” وذلك التضاد البيئى الذى ناصبها العداء من اول لحظة بحرارة الجو الساخنة والحمار الذى هو وسيلة المواصلات الوحيدة والتقاليد التى تعيب على الفتاة امتطاء ظهره كنوع من العيب ، ولكنها ركبت بسبب مالحق بها من إعياء بينما الجدة العجوز تمضى على قدميها وهى حافية وقد تأبطت مداسها كعادتهم هناك والذى يمثل لها أهمية كبرى لكى لا يستهلك من الإستعمال ..
هناك فى بيت جدتها لا تجد مايثير شهيتها للحياة ، الكل ينام عند دخول الليل ، لا نزهة ولا سينما ولا وسائل ترفيه حياة بعيدة كل البعد عما عاشته فى القاهرة من دور سينما كانت ترتادها أو خروج لرؤية العالم أو قصص حب كانت السبب فى إرسالها إلى هذه البقعة من الدنيا التى جاءت إليها مرغمة وسعت كثيراً للهروب من حصارها وأسجيتها وأسوارها المطوقة للحريات ، قرية بعيدة كل البعد عن صخب وضوضاء العاصمة ..
هذه الفتاة ذات بلسانها وعباراتها الجديدة وكلماتها الجريئة والتى جاءت من الشمال إلى القرية وقع فى غرامها الصبى الذى لم يبلغ الحلم فتقدم للزواج منها وسط عجب جده الذى عاش فى القاهرة نصف قرن من الزمان وفهم لغة أهلها وعادات وتقاليد ناسها كما عرف كف يده ..
هذه الفتاة الجميلة خلبت ألباب الجد العجوز والصبى الصغير ومحروس الأبله ، وسط أجواء من الرفض تارة لها والقبول تارة لها ، فبإعتراف التربية والتعليم ـ بكل أجهزتها ـ عجزت عن محو الأمية بأساليب عفا عليها الزمن ونجحت البنت الوافدة أن تفك الطلاسم الموجودة على ألسنة فتيات القرية كما استطاعت أن تجعلهن يقمن بحل ضفائرهن وتنظيف شعورهن / رؤوسهن مما تراكم عليها من غبن ومن موروثات قديمة توارثنها من الأجيال السابقة ..
البنت التى جاءت من الشمال رأت من حولها تجارة الرقيق تتجلى فى أسرة أمها وتلك الأسر التى تنجب بلا حصر ، البنات اللآتى يتم تزويجهن تحت وطأة الفقر ويتمثل ذلك فى خالاتها ، احداهن تزوجت شيخاً من أثرياء النفط أغدق عليه وعلى أهلها من ثرائه ، والثانية التى تزوجت من رجل أفريقى وسافرت معه لبلاده وضاعت هناك وسط طوفان الإتقلابات والثورات فى بلاده ، والثالثة التى كانت متمردة واورثت هذه الفتاة ـ بطلة الرواية ـ طبيعة التمرد فهى الجميلة التى أحبت شاباً سعى ومع أول مقاولة قام بها كمقاول صغير فأسس بيتاً بسيطاً وتقدم بشكل شرعى لأبيها الذى رفضه لمجرد أنه ليس من بنى جلدته وظلت الفتاة تحبه حتى بعد أن سافر خارج الوطن بعد أن نقم على كل شئ من حوله وتحول من النقيض إلى النقيض وأصبح كارهاً لهذا الوطن بعد أن رفضه ولفظه وناصبه العداء حتى انتهى الأمر به ارهابياً قتيلاً عجب الناس جميعاً من وسألوا عن تلك الفتاة التى وجدوها إلى جوار جثته رغم أنها لم تكن من ضمن زوجاته الأربع ..
**
فالأب الذى عاش فى القاهرة أصبح يرسل الحوالات بشكل أكثر عن ذى قبل ، وهو بجلالة قدره لم قادراً على السيطرة على ابنته وخشى عليها من حياة القاهرة التى لا ترحم وخاف أن تجلب له العار والفضيحة ورأى ضرورة تأديبها لعلها تثوب إلى رشدها فأرسلها إلى أمه ” شاية” فى النوبة لكى تعيد تربيتها من جديد ، كان الأب يظن أن الأمر غاية فى السهولة واليسر ، ونسى أن أبناء المدن ومن ولدوا بها من الصعوبة بمكان أن يتأقلموا مع غير المدن أو ما يشبه مدنهم ، فالمدينة وخاصة حين تكون هى القاهرة لا أحد يستطيع الإنفلات من هيمنتها وسيطرتها أو نسيانها وقد تأثر بتحضرها وعبقها الذى لا يُنسى وذكرياتها التى لا تنتهى ، فهى القاهرة الساحرة ..
الجدة ” شاية ” امرأة صعبة المراس ورثت تلالاً من التقاليد القديمة والتى تقف فى حالة تأهب قصوى أمام طغيان الحضور الأنثوى للفتاة التى مازالت تعيش الحلم وتغنى أغنيات الحب والغرام ، أما الصبى الذى عمل وزيراً لشباب كان يقف عند بابهم وهم فى ليلة الدخلة كما العادة هناك حيث بكون العريس فى هذه الليلة ملكاً وعليه أن يعتمد على وزير أمين يدرأ عنه من يتلصصون عليه ، أما عائشة شقيقته التى دعاها الجد يوم عرسها فى نهاية الرواية لأن تفك ضفائرها وكأنما يدعوها يطلق للتحرر من ربقة الماضى ويدعوها لحرية الطيران ، الحرية من أجل الخروج من هذا الطوق المطبق على كل شئ ..
غادة نموذج للفتاة المتمردة التى أخرجت من بيئتها وألقى بها فى دنيا غير دنياها وعالم غير عالمها فحاولت الهرب ، وبحكم التقاليد أعيدت لأهلها ، لكن فى المرة الثانية وكانت الأحداث للهروب قد بلغت سخونتها وأراد الفتى الذى تقدم لخطبتها على الرغم من صعر سنه أن يثبت لها رجولته ونخوته وقدراته واتفقاً معا على الخلاص من القيود المفروضة كعربون زواج لو استطاع أن يصل بها إلى بر الأمان فى أسوان ـ أول الدنيا ـ وليس من سبيل أمامهما سوى المغامرة عن طريق الصحراء ، وماأدراك ماهى تلك الصحراء التى تتوهج من سمائها شمس لا ترحم ورمال ساخنة ، وجوع وعطش ، وذئاب بشرية ورجال متعطشون وعساكر هجانة ، غير الذئاب الأخرى والضباع والثعابين وغير الجن والعفاريت ، حيث المطاردات والمخاوف والرعب ومحاولة الصبى دائماً السعى لإثبات الذات والرجولة والنخوة والبلاء الحسن ، ولكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه ، فالليل والصحراء ومخاوف الطريق وطوله والبعد عن العمران لثلاثة أيام مقبلة ، كل هذا جعل الفتى والفتاة يفكران بصوت عالٍ فلا يجدان مناصاً سوى العودة وليكن مايكون ..
وهنا فى القرية الجدة ” شاية” التى رأت أن تتحمل كثيراً من أجل ضمان وصول الحوالات من ابنها العائش فى القاهرة والتى زادت والتى خافت من انقطاعها لو عادت الفتاة ثانية لكنف أبيها ..
تقوم الجدة بعد رجوع غادة من الهروب بحبسها والبحث عن عريس يسترها ، ابن عمها الشيخ العجوز أصدر قراره بضرورة ردها مرة أخرى لأبيها ليتحمل مسئوليتها هو ولا أحد غيره ، هكذا علمته تجارب الحياة وتلك هى الحقيقة ..
ولكن القرية تستيقظ ذات صباح وغادة ليست بها ، لقد هربت هذه المرة ، ولكنها ظهرت إلى جوار جثة الإرهابى ومازال البحث دائراً عنها لكونها ليست من بين زوجاته الأربع ..
منقوووووووول من احدى المنتديات