قصتي مع الحرف النوبي
د. عبد القادر شلبي
كَتَبْتُ بعض هذا الحديث، كمقدمة لكتاب " اللغة النوبية … كيف نكتبها !" للصديق المرحوم د. محمد مختار خليل كبارة (أبو سمبل) ولم ينشر في حينه لظروف طارئة، ولأهمية الاستمرار في الاهتمام بموضوع الكتابة باللغة النوبية.. فإنني أعود إلى الموضوع مرة أخرى من خلال مجلتنا الإلكترونية "أخبار نباتا".
لقد تابعت منذ أمد بعيد جهد كوكبة من الشعراء والكتاب والفنانين النوبيين الذين سجلوا تجربتهم الفنية شعراً أو نثراً، باللغة العربية أو الإنجليزية، وأدعي من خلال إمعان الفكر في صلب تجربتهم، أن إحدى هواجسهم عند التعبير عن أحاسيسهم النوبية .. كانت معضلة اللغة في ترجمة المشاعر الشديدة النوبية (المحلية) إلى لغات هي في الغالب العربية أو الإنجليزية، كما أدعي إنني أستطيع تبين الجهد " الإضافي " المبذول في أعمالهم، حتى لدى كبار كتابنا و أدبائنا.
الكاتب الكبير محمد خليل قاسم ( الدِر) في روايته "الشمندورة" باللغة العربية.
الأستاذ جمال محمد أحمد (سْرّى) في كتابه "حكايات من سرّّي" باللغة الإنجليزية.
ورغم المقدرة الفائقة للشاعر جيلي عبد الرحمن (صاي) ومحمد فضل السيد بكاب (سركمتّو)، ومحمود شندي (أبريم)، وامتلاكهم ناحية التعبير باللغة العربية، كونهم من خرجي الجامعات والمعاهد الأزهرية، إلا أنني شعرت دائماً برغبة في أن تكون قصيدتي "عبري" لجيلي عبد الرحمن و "جدتي" لمحمد بكاب باللغة النوبية، كذلك قصيدة "دهميت" للشاعر عبد الدائم طه (دهميت) وأشعار الأستاذ محمد جدو بكاب (ادندان) باللغة العربية.
هذا الإحساس يتأكد عندي بصورةٍ باهرةٍ عند الاستماع للقصائد النوبية للشعراء الفاتح شرف الدين (كويكي)، مصطفى عبد القادر (ادندان) محمد مختار عبدون (سركمتو) فاطمة محجوب عثمان ( سركمتو)، الأستاذ محمد وردي ( صواردة ) أو في الشعر القصصي لإبراهيم عبدة (دوشات) أو صلاح دهب (أُكْمِى) أو صاحب (سرقدن دكاى) الهادي حسن احمد (صاي) و مكي علي إدريس (عبري) عند هؤلاء لا تشعر بالإرهاق، ولا تصاب باللهاث وأنت تتبع نسجهم البلاغي في سهولة ويسر لمفردات البيئة والحياة النوبية.
، وكان يحمل معه ما بدا لي إنها حروف لاتينية مطبوعة للأصوات النوبية، ولكنه أكد أنها الحروف ذاتها التي استعملت في القرن السادس الميلادي.
كنت في حاجة إلى دليل علمي فتوجهت إلى القاهرة وبين كوكبة من الأدباء والفنانين النوبيين وفي منزل الصديق (جدوكاب) التقيت ذلك الإنسان، الضئيل الجسم، الخفيض الصوت النوبي الملامح، الجم التواضع الدكتور محمد مختار خليل كبارة، ثم اتقيت به مرة ثانية في منزله في (إمبابة)، وتكشفت لي جوانب أخرى من شخصيته وأنا أرى للمرة الأولى في حياتي مخطوطات باللغة النوبية، وبمساعدته قرأت بصعوبة فصلاً عام يفصل بيننا، في تلك اللحظات الشديدة التوهج رأيت عيون د. مختار الصغيرة الذكية، تبرق في ود، وعلت وجهه ابتسامة صافية، وسكينة العالِم العارِف الواثق من علمه تغمره وتلفه تماماً. وتنفستُ ببطيء وأنا أمعن الإبحار داخل ذاتي، وشملتني سكينةُ مَنْ وجد البر والشاطئ بعد إبحار في بحر متلاطم الأمواج.
قلت وأنا أحاول قطع حبل الصمت الطويل، .. "ولكن لغة القوم في ذلك الزمان بدت لي غريبة، خليطاً من ("المتوكية" و "الفاديجا" و"المحسي" و"الدنقلاوي")" . فرد في صوت خفيض:"نعم .. لقد كانت لغة واحدة في ذلك الزمان"، ولفنا الصمت من جديد.
وبدأت مرحلة أخرى من المشوار رحم الله دكتور مختار وجمّـل عزاءه
د. عبد القادر شلبي
د. عبد القادر شلبي
كَتَبْتُ بعض هذا الحديث، كمقدمة لكتاب " اللغة النوبية … كيف نكتبها !" للصديق المرحوم د. محمد مختار خليل كبارة (أبو سمبل) ولم ينشر في حينه لظروف طارئة، ولأهمية الاستمرار في الاهتمام بموضوع الكتابة باللغة النوبية.. فإنني أعود إلى الموضوع مرة أخرى من خلال مجلتنا الإلكترونية "أخبار نباتا".
لقد تابعت منذ أمد بعيد جهد كوكبة من الشعراء والكتاب والفنانين النوبيين الذين سجلوا تجربتهم الفنية شعراً أو نثراً، باللغة العربية أو الإنجليزية، وأدعي من خلال إمعان الفكر في صلب تجربتهم، أن إحدى هواجسهم عند التعبير عن أحاسيسهم النوبية .. كانت معضلة اللغة في ترجمة المشاعر الشديدة النوبية (المحلية) إلى لغات هي في الغالب العربية أو الإنجليزية، كما أدعي إنني أستطيع تبين الجهد " الإضافي " المبذول في أعمالهم، حتى لدى كبار كتابنا و أدبائنا.
الكاتب الكبير محمد خليل قاسم ( الدِر) في روايته "الشمندورة" باللغة العربية.
الأستاذ جمال محمد أحمد (سْرّى) في كتابه "حكايات من سرّّي" باللغة الإنجليزية.
ورغم المقدرة الفائقة للشاعر جيلي عبد الرحمن (صاي) ومحمد فضل السيد بكاب (سركمتّو)، ومحمود شندي (أبريم)، وامتلاكهم ناحية التعبير باللغة العربية، كونهم من خرجي الجامعات والمعاهد الأزهرية، إلا أنني شعرت دائماً برغبة في أن تكون قصيدتي "عبري" لجيلي عبد الرحمن و "جدتي" لمحمد بكاب باللغة النوبية، كذلك قصيدة "دهميت" للشاعر عبد الدائم طه (دهميت) وأشعار الأستاذ محمد جدو بكاب (ادندان) باللغة العربية.
هذا الإحساس يتأكد عندي بصورةٍ باهرةٍ عند الاستماع للقصائد النوبية للشعراء الفاتح شرف الدين (كويكي)، مصطفى عبد القادر (ادندان) محمد مختار عبدون (سركمتو) فاطمة محجوب عثمان ( سركمتو)، الأستاذ محمد وردي ( صواردة ) أو في الشعر القصصي لإبراهيم عبدة (دوشات) أو صلاح دهب (أُكْمِى) أو صاحب (سرقدن دكاى) الهادي حسن احمد (صاي) و مكي علي إدريس (عبري) عند هؤلاء لا تشعر بالإرهاق، ولا تصاب باللهاث وأنت تتبع نسجهم البلاغي في سهولة ويسر لمفردات البيئة والحياة النوبية.
، وكان يحمل معه ما بدا لي إنها حروف لاتينية مطبوعة للأصوات النوبية، ولكنه أكد أنها الحروف ذاتها التي استعملت في القرن السادس الميلادي.
كنت في حاجة إلى دليل علمي فتوجهت إلى القاهرة وبين كوكبة من الأدباء والفنانين النوبيين وفي منزل الصديق (جدوكاب) التقيت ذلك الإنسان، الضئيل الجسم، الخفيض الصوت النوبي الملامح، الجم التواضع الدكتور محمد مختار خليل كبارة، ثم اتقيت به مرة ثانية في منزله في (إمبابة)، وتكشفت لي جوانب أخرى من شخصيته وأنا أرى للمرة الأولى في حياتي مخطوطات باللغة النوبية، وبمساعدته قرأت بصعوبة فصلاً عام يفصل بيننا، في تلك اللحظات الشديدة التوهج رأيت عيون د. مختار الصغيرة الذكية، تبرق في ود، وعلت وجهه ابتسامة صافية، وسكينة العالِم العارِف الواثق من علمه تغمره وتلفه تماماً. وتنفستُ ببطيء وأنا أمعن الإبحار داخل ذاتي، وشملتني سكينةُ مَنْ وجد البر والشاطئ بعد إبحار في بحر متلاطم الأمواج.
قلت وأنا أحاول قطع حبل الصمت الطويل، .. "ولكن لغة القوم في ذلك الزمان بدت لي غريبة، خليطاً من ("المتوكية" و "الفاديجا" و"المحسي" و"الدنقلاوي")" . فرد في صوت خفيض:"نعم .. لقد كانت لغة واحدة في ذلك الزمان"، ولفنا الصمت من جديد.
وبدأت مرحلة أخرى من المشوار رحم الله دكتور مختار وجمّـل عزاءه
د. عبد القادر شلبي